الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد ..
فهذا ظل من ظلال آية
️
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
جاءت هذه الآية في ختام سورة العنكبوت، والتي افتتحت بقوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3].
وكأن ختام سورة العنكبوت بهذه الآية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} هو "جواب"عن التساؤل الذي قد يطرحه المؤمن ـ وهو يقرأ بداية سورة العنكبوت التي تقرر حقيقة شرعية وسنة إلهية ـ في طريق الدعوة إلى الله تعالى
-
وذلك السؤال هو: ما المخرج من تلك الفتن التي حدثتنا عنها أول سورة العنكبوت؟!
فيأتي الجواب في آخر السورة، في هذه الآية المحكمة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} :""""


فلا بد من الجهاد ـ بمعناه العام ـ ولا بد من الإخلاص، عندها تأتي الهداية، ويتحقق التوفيق بإذن الله.
ولا بد لكل من أراد أن يسلك طريقاً أن يتصور صعوباته؛ ليكون على بينة من أمره، وهكذا هو طريق الدعوة إلى الله، فلم ولن يكون مفروشاً بالورود والرياحين!
بل هو طريق "تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمى في النار الخليل, وأضجع للذبح إسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع سنين". :"""""
أتدرين لماذا؟
لأن "الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف؛ وأمانة ذات أعباء؛ وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال.
فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا! وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم. 



إذا تبينت صلة هذه الآية المذكورة في آخر سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ـ بأول السورة! فإن دلالات هذه الآية في ميدان الدعوة كبيرة ومتسعة جداً، وهي تدل بوضوح على أن من رام الهداية والتوفيق فليحقق ذينك الأصلين الكبيرين اللذين دلّت عليهما هذه الآية:
1 ـ أما الأصل الأول: فهو بذل الجهد والمجاهدة في الوصول إلى الغرض الذي ينشده الإنسان في طريقه إلى الله تعالى.
2 ـ والأصل الثاني هو: الإخلاص لله، لقوله ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} فليس جهادهم من أجل نصرة ذات، ولا جماعة على حساب أخرى، وليس من أجل لعاعة من الدنيا، أو ركض وراء كرسي أو منصب، بل هو جهادٌ في ذات الله تعالى.
️
️
️
وإنما نُبّه على هذا الأصل ـ وهو الإخلاص ـ مع كونه شرطاً في كل عمل، فإن السر ـ والله أعلم ـ لأن من الدعاة من قد يدفعه القيام بالدعوة، أو بأي عمل نافع، الرغبة في الشهرة التي نالها الداعية الفلاني، أو يدفعه نيل ثراء ناله المتحدث الفلاني!! فجاء التنبيه على هذا الأصل الأصيل في كل عمل صالح.
وثمة سرٌّ آخر ـ والله أعلم ـ في التنبيه على هذا الأصل، وهو: أن الإنسان قد يبدأ مخلصاً، ثم لا يلبث أن تنطفئ حرارة الإخلاص في نفسه كلما لاح أمام ناظريه شيء من حظوظ النفس، والأثرة، أو التطلع إلى جاه، والرغبة في العلو والافتخار، أو الانتصار.
"والعلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة، وهي إذا استفحلت استأصلت الإيمان، وإذا قلّت تركت به ثُلماً شتى، ينفذ منها الشيطان"، لذا ليس غريباً أن يأتي التوكيد على هذا الأصل الأصيل في هذا المقام العظيم: مقام الجهاد والمجاهدة.
وإذا تقرر أن السورة مكية؛ وهو الذي لم تجب فيه بعدُ شعيرة الجهاد بمعناه الخاص ـ وهو قتال المشركين لإعلاء كلمة الله ـ فإن ثمة معنى كبيراً تشير إليه هذه الآية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وهو أن من أبلغ صور الجهاد: الصبر على الفتن بنوعيها:
١- فتن السراء
٢- وفتن الضراء، والتي أشارت أوائل سورة العنكبوت إلى شيءٍ منها.
وهذه الآية المحكمة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} دلت على شيءٍ آخر، كما يقول ابن القيم:: "وهو أن أكمل الناس هدايةً أعظمهم جهاداً، وأفرض الجهاد:
١- جهاد النفس
٢-وجهاد الهوى
٣-وجهاد الشيطان
٤-وجهاد الدنيا،
فمن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته :""
ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد... إلى أن قال: "ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطناً، فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نصرتْ عليه نُصِرَ عليه عدوُه".
وفي كلمات الأعلام من سلف هذه الأمة، والتابعين لهم بإحسان ما يوسع دلالة هذه الآية:
فهذا الجنيد: يقول ـ في تعليقه على هذه الآية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ـ:
والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة؛ لنهدينهم سبل الإخلاص.
ولأهل العلم نصيب من هذه الآية، يقول أحمد بن أبي الحواري: حدثني عباس بن أحمد ـ في قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} قال: الذين يعملون بما يعلمون، نهديهم إلى ما لا يعلمون. :"""

وهذا الذي ذكره هذا العالم الجليل هو معنى ما روي في الأثر: من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعمل، وشاهد هذا في كتاب الله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: 17].
وكان عمر بن عبدالعزيز: يقول: "جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا ولو عملنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا غلق ما لا تهتدي إليه آمالنا. :""""""
وفي واقع المسلمين أحوال تحتاج إلى استشعار معنى هذه الآية،
فمن له والدان كبيران مريضان، بحاجة أن يستشعر هذه الآية.
ومن سلك طريق طلب العلم، فطال عليه بعض الشيء بحاجة أن يتأمل معاني هذه الآية.
ومن فرّغ جزءً من وقته لتربية النشء، والشباب، أو لتعليم أبناء وبنات المسلمين كتابَ الله عز وجل ـ وقد دبّ عليه الفتور ـ هو بحاجة ماسّة ليتدبر هذه الآية. 


️
وبالجملة، فكلُّ من نصب نفسه لعمل صالح، سواء كان قاصراً أم متعدياً، فعليه أن يتدبر هذه الآية كثيراً، فإنها بلسمٍ شافٍ في طريق السائرين إلى ربهم، ويوشك المؤمن أن ينسى كلَّ ما واجهه من تعب ونصب، إذا وضع قدمه على أول عتبة من عتابات الجنة، جعلني الله وإياكم ـ ووالدينا وذرياتنا ـ من أهلها، ومن الدعاة إلى دخولها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق